قواعد الإسناد .

المبحث الأول :  ماهية قواعد الإسناد في القانون الدولي الخاص.

لم تعد أية نظرية من النظريات المقترحة لتصبح معيارا عالميا يصار إليه لحل التنازع بين قوانين الدول المختلفة وبناء على ذلك اتجه أكثر الفقهاء نحو الوضعية الخاصة في حل تنازع القوانين ، فأكثر حلول التنازع توضع من كل دولة بتدخل المشرع الوطني بوضع قواعد تنازع القوانين والتي يطلق عليها قواعد الإسناد تشير بدورها إلى القانون الواجب التطبيق.

         المطلب الأول : مفهـوم قواعد الإسناد .

الفرع الأول : تعريف قاعدة الإسناد

قاعدة الإسناد هي عبارة عن قاعدة قانونية يتكفل المشرع الوطني بوضعها وتنظيمها بتشريع وقد يتم تنظيمها عن طريق اتفاقيات دولية ويمكن في حالة عدم وجود تشريع أو اتفاق دولي استكمالها بالرجوع إلى المصادر الأخرى وهي العرف والقضاء والفقه ، ويكمن الهدف من وراء إنشاء قاعدة الإسناد أو ما يعرف بقاعدة تنازع القوانين في إرشاد القاضي للقانون الواجب التطبيق عن المسالة القانونية المشتملة على عنصر أجنبي أي أنها تسند العلاقة القانونية المشوبة بعنصر أجنبي إلى قانون ما قد يكون وطنيا أو أجنبيا تتكفل قواعده الموضوعية بحكم العلاقة القانونية موضوع النزاع .

فوظيفة قاعدة الإسناد تقتصر على تقرير مبدأ إخضاع العلاقات القانونية - بعد التعرف على طبيعتها -  لقانون يتم تعيينه بمقتضى ضوابط محددة ، فالأخذ بقاعدة الإسناد هذه أو تلك يتطلب تحري حقيقة المسالة المعروضة أي معرفة طبيعتها أو لأي صنف تنتمي حتى يتسنى إدراجها ضمن الطائفة التي خصها المشرع بقاعدة الإسناد.

كما يمكن القول بأن قواعد الإسناد هي القواعد القانونية التي ترشد القاضي إلى القانون الواجب التطبيق على المراكز القانونية ذات العنصر الأجنبي فهي قواعد تواجه المراكز أو العلاقات الداخلية فيما يسمى بالحياة الخاصة الدولية [1] .

فقواعد الإسناد هي قواعد يضعها المشرع الوطني لاختيار أكثر القوانين المتزاحمة ملائمة لحكم العلاقة الخاصة المتضمنة عنصرا أجنبيا وأكثر إيفاء بمقتضيات العدالة من وجهة نظره فهي تهدف الى وضع أكثر الحلول مناسبة من وجهة نظر المشرع الوطني لحكم العلاقات الخاصة الدولية.

و تتشكل قاعدة الإسناد من عنصرين : الفئة المسندة و ضابط الإسناد.

 

 

 

الفرع الثاني : الفئـة المسنـدة .

إن المسائل القانونية كثيرة ومتنوعة لا يمكن حصرها لذلك يستحيل أن يوضع لكل منها قاعدة إسناد خاصة بها مما دفع بالمشرع إلى وضع فئات معينة تسمى بالفئات المسندة وضمن كل فئة منها المسائل القانونية المتقاربة أو المتشابهة  [2] .

وعليه فإن الفئة المسندة هي عبارة عن مجموعة من المسائل القانونية المتشابهة أو المتقاربة التي وضع لها المشرع ضابطا خاصا بها ليسندها به إلى قانون معين .

فالأهلية مثلا في القانون الجزائري أخضعها المشرع لقانون الجنسية طبقا لنص المادة 10 من القانون المدني الجزائري فهي تشكل بذلك فئة مسندة تتضمن جملة من المسائل القانونية ونفس الشيء بالنسبة للحالة المدنية للأشخاص.

الالتزامات التعاقدية أخضعها المشرع لقانون الإرادة طبقا لنص المادة 18 من القانون المدني الجزائري فهي تشكل فئة مسندة تتضمن كل أنواع الالتزامات التي تنشأ عن العقود، كما أن شكل التصرفات القانونية تخضع في جانبها الشكلي لقانون المكان الذي تمت فيه أي لقانون بلد الإبرام.

كما أن القانون الانجليزي والدنمركي والنرويجي وقانون الولايات المتحدة الأمريكية أخضع الأحوال الشخصية لقانون موطن الشخص الذي تخصه العلاقات القانونية.

في حين أن القانون الأردني أخضع الأحوال الشخصية لقانون الجنسية لا لقانون الموطن المواد 12 ف 1 و 18 ف 1 و 2 قانون أردني.

وعليه إذا ما طرحت على القاضي مسألة قانونية مشتملة على عنصر أجنبي فإن أول عمل يقوم به هو البحث عن الفئة المسندة التي تندرج تحتها تلك المسألة ليعرف القانون الواجب التطبيق.

 الفرع الثالث : ضابط الإسناد  :

لما صنف المشرع المسائل القانونية المشتملة على عنصر أجنبي إلى فئات مسندة قام بإسناد كل فئة منها إلى قانون معين عن طريق أداة هي ضابط الإسناد [3].

وضابط الإسناد هو عبارة عن أداة ربط بها المشرع بين الفئة المسندة والقانون المسند إليه.

فقاعدة الإسناد التي تنص على خضوع الشروط الموضوعية للزواج للقانون الوطني لكل من الزوجين قد جعلت من الجنسية ضابطا للإسناد طبقا للمواد 11 و 13 من القانون المدني الجزائري وتلك التي تنص عل خضوع شكل التصرفات القانونية لقانون بلد الإبرام قد جعلت من بلد الإبرام ضابطا للإسناد.

ومن المفترض أن يكون لكل فئة مسندة ضابط إسناد وحيد يتحدد بمقتضاه القانون الواجب التطبيق إلا أنه يمكن أن يكون لها أكثر من ضابط كما هو الحال مثلا بالنسبة لشكل الوصية في القانون المدني الجزائري قبل تعديل 20/07/2005 وبمقتضى القانون 05-10 أصبح قانون جنسية الهالك أو الموصي أو من صدر منه التصرف وقت موته هو الذي يسري على شكل الوصية.

لكن قد يحدث أن يجعل المشرع للفئة المسندة ضابطين أو أكثر أحدهم أصلي والأخرى اختيارية يؤخذ بها فقط في حالة تعذر الأخذ بالضابط الأول، ومثال ذلك ما نصت عليه المادة 18 من القانون المدني الجزائري حيث جعلت قانون الإرادة هو الضابط الأصلي بالنسبة للالتزامات التعاقدية بينما جعلت قانون الموطن المشترك أو الجنسية المشتركة هو الضابط الاحتياطي، وفي حالة عدم إمكان ذلك يطبق قانون محل إبرام العقد.

المطلب الثاني : طبيـعة قواعـد الإسناد.

تتميز قواعد الإسناد بثلاث مميزات هامة نحاول أن نتناولها في هذا المطلب.

الفرع الأول : قواعد الإسناد قواعد غير مباشرة .

لا تتكفل قواعد الإسناد بإعطاء الحل النهائي للنزاع المشتمل على عنصر أجنبي وإنما تبين القانون الذي يخضع له ومن خلاله نجد القواعد القانونية التي ستطبق عليه، فمثلا قاعدة الإسناد الخاصة بالأهلية لا تبين لنا السن الذي عند بلوغه يكون الشخص كامل الأهلية وإنما تكتفي فقط ببيان القانون الذي سيتكفل بإيضاح هذه السن وأيضا قاعدة الإسناد الخاصة بالشروط الموضوعية لصحة الزواج لا تتكفل ببيان هذه الشروط وإنما تبين لنا فقط القانون الذي سيتكفل ببيانها (المادة 11 من القانون المدني)، وهكذا بالنسبة لجميع قواعد  الإسناد وهذا ما يميزها عن سائر قواعد القانون الدولي الخاص الأخرى التي تعطي الحل مباشرة للتنازع المطروح [4] .

فالقواعد المنظمة للجنسية تبين مباشرة من هم رعايا الدولة ، والقواعد المنظمة لمركز الأجانب تبين مباشرة الحقوق التي يتمتع بها الأجنبي والالتزامات التي يتحملها ولا يختلف الأمر بالنسبة لقواعد الاختصاص القضائي الدولي فهي تتكفل مباشرة بتحديد اختصاص محاكم الدولة بشأن النزاعات ذات الطابع الدولي.

الفرع الثاني : قواعد الإسناد قواعد مزدوجة.

وهو ما يعرف بالربط الثنائي [5] فالعنصر المميز لقاعدة الإسناد هو عنصر أو عامل أو معيار ربط موضوعي يربط العلاقة القانونية بنظام قانوني محدد قد يكون نظام قاضي الدعوى أو نظاما قانونيا أجنبيا ومن هنا تنبع الصفة المسماة ثنائية أو ازدواجية قاعدة الإسناد إذ أنها تجعل الاختصاص أما للقانون الوطني وأما للقانون الأجنبي وذلك حسب نوع المسألة القانونية ، فقاعدة الإسناد التي جاءت بها المادة 10 من القانون المدني والتي تقضي بخضوع الأهلية لقانون الجنسية قد تشير باختصاص القانون الأجنبي وذلك حسب الجنسية التي يحملها المعني.

وكذلك نص المادة 16 من القانون المدني الجزائري التي تخضع الميراث لقانون جنسية الهالك فالجنسية تمثل عامل الربط الموضوعي والقانون واجب التطبيق قد يكون القانون الداخلي الجزائري أو قانونا أجنبيا.

لكن يوجد من الفقهاء من لم ترقه هذه الميزة في قاعدة الإسناد ويريدها أن تكون مجردة منها بمعنى أن تقتصر فقط على بيان الأحوال التي يطبق فيها القانون الأجنبي فيريدها بذلك أن تكون مفردة كنص القاعدة الواردة في نص المادة 03 من القانون المدني الفرنسي والتي تقضي بأن " القوانين الخاصة بحالة الأشخاص        وأهليتهم تحكم الفرنسي ولو كان مقيما في بلد أجنبي [6] ، ويبدي هؤلاء الفقهاء للدفاع عن وجهة نظرهم عدة حجج منها أن الدولة لا يمكن أن تعطي الاختصاص لقانون دولة أخرى في حالة ما إذا كانت هذه الدولة ترفض الاختصاص المخول لقانونها ولتجنب هذه النتيجة يجب على كل دولة أن تقتنع فقط ببيان سلطان قانونها وأن تحترم خارج هذه الحدود إرادة الدول الأخرى فيما يتعلق باختصاص قوانينها  القول بخلاف ذلك هو الذي أوقع الفقه والقضاء في مشكلة الإحالة لأنه لو اقتصرت قاعدة الإسناد على بيان مجال تطبيق القانون الوطني دون القانون الأجنبي لما ثارت هذه المشكلة.

والواقع أن هذا الرأي الذي يريد تجريد قاعدة الإسناد من صفتها المزدوجة إذا كان سليما في حالة ما إذا كان قانون واحد فقط من قوانين الدول التي لها علاقة بالنزاع هو الذي يسند الاختصاص لنفسه فإنه في المقابل يعيبه قصوره عن إيجاد حل في حالتين : الأولى لما تسند كل دولة لها علاقة بالنزاع الاختصاص لقانونها والثانية لما ترفض كل دولة لها علاقة بالنزاع جعل الاختصاص لقانونها.

وقد دفع هذا القصور بالقضاء الفرنسي إلى اعتبار قاعدة الإسناد الواردة في المادة 03 السالفة الذكر قاعدة مزدوجة رغم ورودها مفردة فقال : بأنه إذا كان القانون الفرنسي هو المطبق على الفرنسيين حتى و لو كانوا في الخارج ، فبمفهوم المخالفة فإن القوانين الشخصية للأجانب الخاصة بحالتهم وأهليتهم تتبعهم حتى     ولو كانوا في فرنسا [7] .

الفرع الثالث :قواعد الإسناد قواعد وحيدة الطرف.

تتمثل هذه الفكرة في أنه لا يجوز لقاعدة قاضي الدعوى أن تمنح الاختصاص لقانون دولة أجنبية تلافيا لإقدام هذه الأخيرة على رفض هذا الاختصاص ، ولتحاشى هذه النتيجة ينبغي على كل دولة أن تكتفي بتحديد منطقة اختصاص قانونها الذاتي وأن تحترم إرادة الدول الأخرى فيما يتعلق بمجال تطبيق قانونها.

وتبدو هذه النظرية التي دافع عنها في ألمانيا كل من "شنيل" و "فون بار" و تبناها " نيبواييه" في فرنسا متأثرة بالمفهوم القائل بأن القانون الدولي الخاص هو قانون تنازع السيادات .

فالخضوع لقوانين دولة يشكل مظهرا من سيادة هذه الأخيرة وبما أن كافة الدول متساوية بالنسبة للقانون الدولي العام فإن فرض اختصاص على دولة لا تريده لا يعني معاملتها معاملة الند لأن مساواة الدول تستبعد أية فكرة اختصاص مفروض ، وفضلا عن ذلك فإن القضية قد تبدو بسيطة إذا قبل القانون الأجنبي أن يطبق بموجب قاعدة الإسناد الخاصة به ، غير أن الأمور ستزداد تعقيدا إذا ادعى قانونان أو عدة قوانين أجنبية  اختصاصها (تنازع ايجابي) أو على العكس إذا لم يشأ أي منها قبول الاختصاص ( تنازع سلبي) وفي هذه الحالة لابد من العودة إما إلى قانون قاضي الدعوى في حالة التنازع السلبي الأمر الذي سيشكل مخالفة للنظرية أحادية الطرف إذا لم يكن هذا القانون مختصا بموجب قاعدة الإسناد الخاصة به ، أو العودة إلى قاعدة إسناد قاضي الدعوى التي سيقع على عاتقها تعيين القانون الأجنبي الواجب التطبيق الأمر الذي سيشكل عودة إلى النظرية الثنائية .

وعليه فان معيار الربط في القانون الوضعي يكون عادة ثنائيا غير أن هذا لا يمنع أحيانا من اعتماد المعيار الوحيد الطرف إضافة إلى المعيار الثنائي بغية تامين مجال أوسع لقانون قاضي الدعوى[8] .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1]  ـ  هشام علي صادق: تنازع القوانين دراسة مقارنة في المبادئ العامة والحلول الوضعية في التشريع المصري، دار الكتاب الحديث ، القاهرة 1993 ص 05 .

 ـ أعراب بلقاسم ،المرجع السابق ص 68. [2]

[3]  ـ أعراب بلقاسم ،المرجع السابق ص 68، 69.

[4]  ـ أعراب بلقاسم ،المرجع السابق ص 70.

[5]  ـ محند اسعد ، المرجع السابق ص 127 .

[6]  ـ أعراب بلقاسم، المرجع السابق ص 71 .

[7]  ـ أعراب بلقاسم، المرجع السابق ص 71 .

[8]  ـ محند اسعاد ، المرجع السابق ص 130.



24/01/2011
0 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 6 autres membres