تفسيـر قواعـد الإسنـاد.

المبحث الثاني : تفسيـر قواعـد الإسنـاد.

لكي يتمكن القاضي من تطبيق قاعدة الإسناد لابد له بداية أن يكشف عن مضمونها.

وتفسير قاعدة الإسناد يثير لدى فقه القانون الدولي الخاص عدة مشاكل أهمها مشكلة التكييف و مشكلة الإحالة ، فلما تعرض على القاضي مسالة قانونية ذات عنصر أجنبي فإن أول عمل يقوم به هو البحث عن الفئة التي يمكن أن يدرجها تحتها من بين الفئات التي تتضمنها قواعد الإسناد في قانونه وهو ما يسمى بالتكييف.

وبعد أن يحدد القاضي الفئة التي تندرج تحتها المسالة القانونية المطروحة عليه يكون قد عرف القانون الواجب التطبيق عليها لأن المشرع كما سبق لنا الإشارة إليه قد ربط كل فئة مسندة بضابط إسناد يشير إلى القانون المختص بحكمها.

لكن معرفة القانون المختص بحكم العلاقة أو المسألة لا ينهي كل إشكال في طريق الحل بل يبقى تساؤل أخر هو هل أن للقاضي أن يرجع إلى القانون الأجنبي باعتباره كلا لا يتجزأ مما يفرض عليه استشارة قواعد الإسناد التي يتضمنها أم أنه يرجع مباشرة إلى القواعد الموضوعة التي يتضمنها ويطبقها على العلاقة القانونية المطروحة عليه وهو بذلك يستبعد قواعد الإسناد التي يتضمنها الإجابة عن هذا التساؤل تدفعنا للحديث عن مشكلة الإحالة وهي النقاط التي سنحاول أن نتناولها في هذا المبحث.

المطلب الأول : التكييـف (La qualification).

إن عملية إسناد العلاقة القانونية ذات العنصر الأجنبي إلى القانون المختص والذي تحدده قواعد الإسناد تستلزم قبل كل شيء تكييف تلك العلاقة موضوع النزاع ذلك لأن قواعد الإسناد لا تضع الحلول لكل مسالة من المسائل بل إنها تبين القانون الذي يحكم كل طائفة من المسائل القانونية فتحديد طبيعة العلاقة القانونية المتنازع فيها وردها إلى نظام قانوني معين مسالة أساسية يجب حلها أولا وقبل كل شيء وتسمى عملية التحديد هذه بالتكييف.

فالتكييف قد ينصب على واقعة معينة كحادثة يراد معرفة ما إذا كانت تكون عملا ماديا ضارا أم لا تكونه ، كما أنه قد ينصب على مسالة قانونية كحق الحضانة يراد معرفة ما إذا كان أثرا من أثار الزواج أم من آثار الطلاق أم أنه يقع في نطاق الولاية على النفس ، وقد يتناول التكييف قاعدة موضوعة مثل تكييف القاعدة التي تحظر إجراء الوصية بالشكل العرفي الخطي التي تتعلق بشكل الوصية أم تتعلق بأهلية الموصي طبقا للقانون الأردني [1] .

فالتكييف هو تحديد طبيعة المسألة التي تنازعها القوانين لوضعها في إحدى الفئات القانونية التي خصها المشرع بقاعدة إسناد [2] .

وما تجدر الإشارة إليه أن أهمية مشكلة التكييف لا تبدو في القانون الدولي فحسب بل هي مشكلة ملحة تفرض نفسها على القاضي أو على الباحث في مختلف فروع القانون الداخلي فمثلا في القانون المدني نجد القاضي يواجه أحيانا هذه المشكلة لما يريد إعطاء الوصف القانوني الصحيح لرابطة تعاقدية معينة لم يحسن أطرافها تحديد وصفها هل هي عقد بيع أم وعد بالبيع أم عقد إيجار وفي القانون الجنائي نجد القاضي يواجه مشكلة تحديد وصف الفعل الذي ارتكبه الشخص هل هو سرقة أم اختلاس أم خيانة أمانة.

 وعليه فالتكييف هو عملية ذهنية لازمة لأي بحث قانوني [3] .

لكن ما ينبغي ذكره هو أن المشكل في القانون الدولي الخاص ليس مشكل التنازع في التكييف ، ذلك أن مسالة القانونية المطروحة على القاضي لها علاقة بقوانين عدة دول ، فينبغي قبل إجراء التكييف تحديد القانون الذي يجري وفق هذا التكييف ، ولو أن قوانين كل الدول تعطي للمسالة القانونية نفس التكييف ما كانت هناك صعوبة تذكر ، لكن يحدث وأن قوانين الدول تعطي بالنسبة لكثير من المسائل تكييفات مختلفة    ويعود سبب ذلك لاختلاف المفاهيم القانونية من دولة لأخرى [4] .

 فعلى الرغم من اشتراك القانون الفرنسي والقانون الهولندي في إخضاع شكل العقد لقانون بلد تحريره وإخضاع أهلية أطراف العلاقة إلى قانون جنسيتهم فقد ظهر تنازع وخلاف في تكييف علاقة قانونية لا تخرج في موضوعها عن أحد هذين الموضوعين : الأهلية وشكل التصرف ، والأمثلة التالية المستنبطة من القضاء الفرنسي توضح لنا ذلك :

المثال الأول :

أثار ورثة هولنديين أمام المحاكم الفرنسية نزاعا يتعلق بوصية حررها هولندي في فرنسا بالشكل العرفي الذي يجيزه القانون الفرنسي أي أنها كانت مكتوبة ومؤرخة وموقعا عليها بخط يد المتوفي إلا أنها كانت غير موثقة رسميا كما يشترط القانون الهولندي ،طعنوا فيها بعدم صحتها لمخالفتها أحكام المادة 992 من القانون الهولندي التي تمنع الهولنديين ولو في الخارج من كتابة الوصية بخط يد الموصي.

وعليه تختلف النتيجة باختلاف الوصف القانوني للمسألة.

فإذا تم التكييف وفقا للقانون الفرنسي اعتبرت الوصية صحيحة لأن مسألة تحرير الوصية في شكل معين هي مسألة تدخل في فئة شكل التصرفات مما يجعلها خاضعة لقانون بلد الإبرام وهو القانون الفرنسي، أما إذا تم التكييف وفقا للقانون الهولندي اعتبرت الوصية باطلة لأن المنع أو الحضر الوارد في هذا القانون لا يدخل في شكل التصرفات وإنما هو أمر يتعلق بأهلية الهولنديين بدليل أنه يسري في مواجهتهم حتى ولو كانوا خارج هولندا والأهلية كما نعرف تخضع لقانون الجنسية وهو القانون الهولندي.

وعليه فإن الحل سيختلف باختلاف القانون الذي يتم وفقه التكييف.

 

المثال الثاني :

زوجان انكلومالطيان تزوجا في جزيرة مالطا حيث موطنهما الأول ثم هاجرا إلى الجزائر وكانت آنذاك مستعمرة فرنسية وتملك الزوج فيها بعض العقارات وعند وفاته طالبت زوجته بحقها فيها وهو حق معترف به في القانون المالطي ويعرف فيه باسم "نصيب الزوج المحتاج" أو " ربع الزوج الفقير".

فإذا كيف القاضي ما تطلبه الزوجة وفقا للقانون المالطي أعتبر من نظام الأموال وأخضعه بالتالي وفقا لقواعد الإسناد في قانونه للقانون المالطي.

أما إذا كيفه وفقا لقانونه اعتبره نصيبا في ميراث الهالك ومن ثم يخضع للقانون الفرنسي وفقا لقواعد الإسناد الفرنسية.

فوفقا للتكييف الأول تأخذ الزوجة حقها في عقارات زوجها الهالك،

ووفقا للتكييف الثاني لا تأخذ شيئا لأن القانون الفرنسي الساري المفعول آنذاك لا يعترف للزوجة بأي حق في ميراث زوجها المتوفى.

المثال الثالث :

تزوج يوناني بفرنسية زواجا مدنيا في فرنسا فثار نزاع أمام القضاء الفرنسي حول صحة هذا الزواج على أساس أن القانون اليوناني يشترط فيه الشكل الديني و يتوقف الجواب هنا أيضا على التكييف المعطى.

فإذا كيفنا الشكل الديني وفقا للقانون اليوناني اعتبرناه من الشروط الموضوعية أخضعناه وفقا لقواعد الإسناد الفرنسية لقانون جنسية الزوجين أي للقانون اليوناني فيكون هذا الزواج باطلا لكون القانون اليوناني يرتب على تخلف هذا الشرط بطلان الزواج.

أما إذا كيفنا الشكل الديني وفقا للقانون الفرنسي اعتبرناه شرطا شكليا و الشروط الشكلية تخضع لقانون بلد الإبرام ولما كان هذا الزواج قد تم وفقا للشكل الديني الذي يجيزه قانون بلد الإبرام وهو فرنسا اعتبرناه زواجا صحيحا.

إن الأمثلة السابقة أصبحت أمثلة تعود إلى التاريخ و تخص حالات تعتبر استثنائية إجمالا لذلك يتعين علينا أن نستشهد بأمثلة حالية نشير من بينها إلى المؤسسات الانجليزية المسماة "الثقة" وهي غير معروفة في القانون الجزائري ولا في القانون الفرنسي والمنتشرة بصورة كبيرة في منطقة النفوذ القانوني الأنجلوأمريكي وفي كافة البلدان المستعمرة سابقا من قبل انجلترا.

والواقع أن تقنية هذه المؤسسات معقدة جدا ذات أصل تعاقدي، لكن الالتزامات الناجمة عنها هي في حدود كبيرة التزامات قانونية مرتبطة بنظام الثقة غير التعاقدي الذي يتم على أساسه تسوية مختلف الأوضاع التي لا تمت بصلة للعقد لذلك يقتضي الأمر تحليل كل حالة على حدا بعناية فائقة حتى نتمكن من تحديد تكييفها القانوني وبالتالي تحديد القانون واجب التطبيق [5] .

يتضح مما تقدم أن للتكييف أثر مهم في تعيين القانون الواجب التطبيق لأنه الوسيلة الأساسية في اختيار قاعدة إسناد دون أخرى و من ثم تطبيق أحكام قانون دون الأخر وتظهر لنا أهمية التطبيق هذه بسبب اختلاف مفاهيمه من بلد لأخر، إذ ليس هناك أساس موحد في جميع الدول لوصف طبيعة علاقة قانونية معينة والاختلاف في وصف طبيعة العلاقة القانونية يجر إلى اختلاف في اختيار قاعدة الإسناد ومن ثم إلى اختلاف في الحلول الواجب إتباعها.

فالتكييف أمر أساسي وأولي لحل تنازع القوانين لأن تحديد قاعدة الإسناد وبالتالي القانون الواجب التطبيق يعتمد على تعيين طبيعة العلاقة القانونية وإدخالها ضمن صنف قانوني معين.

لكن التساؤل الجوهري الذي يثور في الذهن هو عن القانون الذي يخضع له التكييف؟.

لقد اختلف شراح الفانون الدولي الخاص اختلافا بينا وتنوعت اتجاهاتهم في تحديد القانون الذي يتعين الرجوع إليه لتكييف العلاقات المتضمنة عنصرا أجنبيا وتحديد طبيعتها.

فمنهم من أخضع التكييف لقانون القاضي ومنهم من أخضعه للقانون الذي يحكم النزاع ومنهم من أخضعه للقانون المقارن ، وهو ما سنتناوله بالدراسة فيما يلي مع الإشارة إلى التكييف في القانون الدولي الخاص الجزائري.

 الفرع الأول : إخضاع التكييف لقانون القاضي .

تبنى هذا الرأي جل الفقهاء الفرنسيين وهو ينسب إلى الفقيهين الأستاذ" بارتن" في فرنسا والأستاذ "كان" في ألمانيا، وبمقتضى هذا النظام يعطى التكييف لقانون القاضي المرفوع أمامه النزاع وقد اتبع بصورة عامة منذ زمن طويل في كثير من الدول وطبقته محاكم كثيرة بصورة تلقائية ، وقد أقرت هذا النظام بعض المؤتمرات والمعاهدات الدولية كاتفاق لاهاي لسنة 1925 وأخذ به في التشريعات الحديثة كالقانون المدني الأردني [6]، والقانون المدني العراقي، والقانون المدني للجمهورية العربية السورية، والقانون المدني لجمهورية مصر العربية، والقانون المدني الليبي، والقانون المدني الكويتي، كما استقر على تبنيه القضاء في لبنان.

وعليه ففي المثال الأول المتعلق بوصية الهولندي ينبغي تكييف ما يشترطه القانون الهولندي من وجوب كتابة الوصية في الشكل الرسمي وفقا للقانون الفرنسي وهو ما يؤدي إلى اعتباره مسألة تتعلق بالشكل مما يستوجب إخضاعها للقانون الفرنسي باعتباره قانون محل إبرام الوصية فتعتبر الوصية صحيحة.

وفي المثال الثاني المتعلق بميراث المالطي فإنه ينبغي تكييف ما تطلبه الزوجة والمسمى في القانون المالطي بنصيب الزوج المحتاج وفقا لمفاهيم القانون الفرنسي وهو ما يؤدي إلى اعتباره مسالة متعلقة بالميراث ومستوجبة أن يطبق عليها قانون موقع العقار وهو القانون الفرنسي الذي لا يغترف للزوجة بأي حق في ميراث زوجها.

وفي المثال الثالث ينبغي تكييف ما يشترطه القانون اليوناني من وجوب مراعاة الشكل الديني في الزواج تحت طائلة البطلان وفقا لمفاهيم القانون الفرنسي، وهو ما يؤدي إلى اعتباره مسالة تتعلق بالشكل مما يستوجب إخضاعه لقانون بلد إبرامه وهو القانون الفرنسي فيعتبر الزواج صحيحا.

ولقد عبرت محكمة النقض الفرنسية عن هذا الحل المتمثل في إخضاع التكييف لقانون القاضي بوضوح كامل في قرارها الصادر في 22/06/1955 وقبل ذلك كان القضاء يأخذ به بصفة تلقائية فقالت : "أن مسألة معرفة ما إذا كان عنصر من عناصر مراسيم الزواج يندرج تحت فئة القواعد المطبقة على الشكل أو تحت فئة القواعد المطبقة على الموضوع ينبغي أن يحل من طرف القضاة الفرنسيين وفقا لمفاهيم القانون الفرنسي الذي يعتبر الصفة الدينية أو الصفة اللائكية للزواج مسألة شكل" [7] .

وقد قدمت حجج كثيرة لتبرير هذا النظام حيث اعتمد الأستاذ " بارتن " في إخضاعه التكييف لقانون القاضي على حجة مستمدة من فكرة السيادة مفادها أن كل تطبيق للقانون الأجنبي داخل دولة القاضي يعد انتقاصا لسيادتها التشريعية .

وعليه فالمشرع وحده هو الذي يملك تحديد القدر الذي يمكن أن تنتقص فيه سيادة دولته التشريعية   ولما كان التكييف قد يترتب عنه تطبيق القانون الأجنبي داخل إقليم دولة القاضي وفي ذلك انتقاص لسيادة دولته التشريعية فإنه ينبغي أن لا يتم إلا وفقا لقانون القاضي  ، لأنه لو تم وفقا للقانون الأجنبي فمعنى ذلك أن هذا القانون هو الذي يملك تحديد السيادة التشريعية لدولة القاضي وهو أمر غير مقبول.

لكن ما تجدر الإشارة إليه أن الفقه الحديث المؤيد لإخضاع التكييف لقانون القاضي لم يستند على هذه الحجة بل استند على حجج أخرى منها :

o        أن التكييف هو في حقيقته تفسير لقاعدة الإسناد فإذا ما قضت هاته الأخيرة بخضوع شكل التصرفات لقانون بلد الإبرام فإنه يتعين على القاضي لتطبيق هاته القاعدة أن يبين معنى الشكل لمعرفة ما إذا كان هذا المعنى ينطبق على المنع الوارد في القانون الهولندي من إبرام الوصية في غير الشكل الرسمي، وإذا ما قضت قاعدة الإسناد بخضوع الميراث لقانون جنسية المتوفى فعلى القاضي قبل تطبيقها أن يبين معنى الميراث.

ولما كان التكييف تفسيرا لقاعدة الإسناد الوطنية فلا يعقل أن يطلب هذا التفسير من غير القانون الذي تنتمي إليه هذه القاعدة وإلا نكون قد أعطيناها معنى غير الذي أراده المشرع واضعها.

o        أنه من غير الممكن إجراء التكييف وفق القانون الأجنبي لأن هذا القانون قبل عملية التكييف غير معروف فضلا عن أن إجراء التكييف وفق القانون الأجنبي يعني أن هذا القانون هو واجب التطبيق ومن ثم فأية فائدة منتظرة من عملية التكييف.

o        لما كان التكييف عملية أولية وأن القاضي هو الذي سيقوم بها فإن الإسناد الوحيد الذي يظهر عند القيام بها هو الإسناد القضائي مما يبرر إجراء التكييف وفق قانون القاضي.

إن عملية التكييف يقوم بها القاضي المعروض عليه النزاع وهذا الأخير بحكم تكوينه الثقافي والقانوني سيتأثر لا محالة عند إجرائها بالمبادئ الواردة في قانونه.

كما تظهر حدود التكييف وفقا لقانون القاضي من خلال الدراسات الفقهية حيث يفرق "بارتن" بين التكييف الأولي أو السابق والتكييف اللاحق أو الثانوي ، فالأول غرضه الاهتداء إلى قاعدة الإسناد التي تندرج تحتها المسألة القانونية المطروحة لمعرفة القانون المختص بحكمها ، والثاني هو الذي يتطلبه القانون الذي عينته قاعدة الإسناد بعد الاهتداء إليها.

فالتكييف الأول هو الذي يخضع لقانون القاضي أما الثاني فيخضع للقانون الذي أشارت بتطبيقه قاعدة الإسناد.

وقد كان "بارتن" يعتبر في البداية التكييف الثانوي استثناء من التكييف وفقا لقانون القاضي غير أنه سرعان ما تراجع عن ذلك في أبحاثه وأعتبره نتيجة منطقية للأساس الذي بنى عليه نظريته وهي فكرة السيادة  وقد أقر الفقه الحديث فقه "بارتن " الذي يميز بين التكيف السابق والتكييف اللاحق لكن على أسس مختلفة  فالتكييف الأولي عند هذا الفقه ما هو إلا تفسير لقاعدة الإسناد في قانون القاضي، لهذا فمن المنطقي ألا يخضع إلا لهذا القانون .

أما التكييف اللاحق فهو تفسير للقانون الأجنبي فمن المنطقي ألا يتم إلا وفقا لهذا القانون وفي هذا الصدد يقول الأستاذان " لوسوارن " و "بورال " أن التكييفات الثانوية ليست تكييفات دولية وإنما هي تكييفات داخلية وعليه لا يمكن اعتبارها استثناءا حقيقيا من قاعدة خضوع التكييف لقانون القاضي [8] .

مع ملاحظة أن التكييف وفقا لقانون القاضي ينبغي أن يتجنب لما تكون قاعدة الإسناد واردة في معاهدة دولية لأنه يؤدي إلى الاختلاف في تحديد نطاقها نتيجة الاختلاف في التكييف من دولة متعاهدة لأخرى وفي ذلك تعطيل لأحكام المعاهدة وتحلل من أحكامها [9] .

وإدراكها لهذه الخطوة فإن أغلبية المعاهدات المبرمة في الوقت الحاضر تحرص على إعطاء التكييفات الأساسية اللازمة .

الفرع الثاني : إخضاع التكييف للقانون المختص بحكم النزاع .

يعطى بموجبه الاختصاص في موضوع التكييف للقانون الذي سيحكم العلاقة موضوع النزاع، فقواعد التكييف المقررة في القانون الذي سيحكم النزاع تكون مختصة بتكييف العلاقة القانونية، ويبرر أنصار هذا النظام و على رأسهم "DESPAGNET" في فرنسا و" PACCHIONI"في إيطاليا و "WOLF" في ألمانيا اتجاههم هذا بقولهم أن القانون إذا ما أشار بوجوب حل النزاع وفقا لقانون ما فإن هذا القانون يجب أن يحكم العلاقة بشكل كامل بما في ذلك تكييف العلاقة ووصفها كي تتحقق العدالة المتوخاة من تطبيق القانون الأجنبي المختص لأن تحقيق العدالة لا يتم إلا بإعطاء القانون المشار إليه صفة الاختصاص بصورة كاملة للقواعد الموضوعية التي تحكم العلاقة وكذلك القواعد والأفكار التي تتعلق بالتكييف. 

ففي مثال وصية الهولندي يجب إجراء تكييف القاعدة الواردة في المادة 992 من القانون المدني الهولندي التي تحضر على الهولنديين حتى خارج هولندا إجراء وصاياهم في الشكل العرفي الخطي وفقا للقانون الهولندي، ولما كان هذا القانون يعتبر هذا الحظر متعلقا بأهلية الهولنديين فإن أي تكييف غيره يعطى له يعتبر تشويها لطبيعة الحقيقة .

ولعل أهم انتقاد وجه إلى هذا الاتجاه هو أنه تعترضه استحالة عملية فالتكييف كما نعلم هو عملية سابقة على تحديد القانون المختص، فالقاضي قبل التكييف لا يعلم بعد ما إذا كان قانونا ما سيختص بحكم المسألة محل النزاع أم لا فكيف يقوم  إذا بالتكيف وفقه وهو لم يتحدد بعد ؟.

فبالنسبة لزواج اليوناني في فرنسا في الشكل المدني فأنصار هذا الاتجاه يعتبرون أن القانون اليوناني هو الذي سيطبق وبالتالي ينبغي إجراء التكييف وفقه، في حين أن تطبيقه مرتبط بالتكييف الذي سينتهي إليه القاضي، وعليه فطالما أن التكييف لم يتم لا يمكن أبدا الجزم بأن هذا القانون أو ذاك هو الذي سيطبق .

نستنتج من هذا أن كل خطوة وفق قواعد الإسناد تتطلب معرفة طبيعة العلاقة القانونية وتكييفها قبل كل شيء ، فالتكييف عملية أولية تسبق معرفة القانون الواجب التطبيق، وعليه فإن كل تحكيم للقانون الواجب التطبيق أي القانون الذي نبحث عنه ونريد الكشف عنه يكون سابقا لأوانه ويصطدم بالاستحالة العملية.

         الفرع الثالث: إخضاع التكييف للقانون المقارن.

يعطى بموجبه الاختصاص في التكييف للقانون المقارن ويقتضي هذا النظام بحل التنازع الناشئ بسبب التكييف بصورة مستقلة ومنفصلة عن مفاهيم قوانين الدول الداخلية وذلك دون التقيد بقانون دولة معينة، فإذا نص قانون القاضي مثلا على أن الأهلية تخضع لقانون الجنسية فإن مفهوم الأهلية يجب أن لا يتحدد وفقا لقانون القاضي فقط أو بموجب قانون جنسية الشخص فحسب بل يجب أن يرجع في ذلك أيضا إلى المفهوم العالمي بهذا الشأن .

          وفي هذا الصدد يرى الفقيه الألماني " RABEL" أن القاضي لا ينبغي أن يكون أسير قانون معين عند قيامه بالتكييف و إنما ينبغي عليه باستعمال المنهج المقارن أن يستخلص مفاهيم مستقلة مختلفة عن المفاهيم الداخلية  وتكون مصبوغة بصيغة عالمية  [10].

ويجد هذا الاتجاه أساسه في فكرة أساسية هي أن قواعد الإسناد في قانون القاضي وضعت لمواجهة علاقات دولية خاصة ،وعليه فإن مضمونها ينبغي أن يتحدد وفقا لقواعد مطابقة لطبيعتها والوظيفة الدولية التي تؤديها ومن ثم يجب الاعتماد في تحديد مضمونها على مفاهيم عالمية موحدة و مجردة.

وميزة هذا النظام أنه يؤدي إلى توحيد أوصاف العلاقة القانونية ويجعل لقواعد الإسناد معنا عالميا بالإضافة إلى أنه يذلل الصعوبات التي تجابه القاضي عند تكييف علاقة قانونية تتعلق بنظام قانوني لا وجود له في التشريع الداخلي، كما يهدف هذا الاتجاه إلى إزالة مشكل التنازع في التكييفات و ذلك يجعل قضاة مختلف الدول يتوصلون إلى نفس المفاهيم للفئات المسندة [11].

لا ننكر أن أنصار هذا الاتجاه قد أرادوا تحقيق مثل عليا إلا أن رغبتهم لم تأخذ طريقها إلى التطبيق الفعلي إذ أن الوصول إليها ليس بالأمر الهين اليسير ذلك أن قواعد القانون المقارن لم تتبلور بعد ولم ينجح هذا الأخير في أن يوفق بين أوصاف العلاقات القانونية، بالإضافة إلى أن المحاكم وعند مجابهتها لقضايا لم يتطرق إليها التشريع الداخلي لم تعان صعوبة في تكييفها.

         فهذا المنهج رغم وجاهته من الناحية النظرية فإنه من الناحية العملية عسير الإتباع، فمن جهة يصعب على القاضي الذي يجري التكييف الإحاطة بمختلف النظم القانونية الأجنبية ليستمد منها الوصف القانوني الملائم للمسألة محل التكييف ومن جهة أخرى فإن النظم القانونية المختلفة تختلف فيما بينها حول الوصف القانوني للكثير من المسائل ،مما يجعل القاضي في غير استطاعته التوصل إلى نتائج غير متضاربة .

الفرع الرابع : التكييف في القانون الدولي الخاص الجزائري

جاء في المادة 09 من القانون المدني الجزائري " يكون القانون الجزائري هو المرجع في تكييف العلاقات المطلوب تحديد نوعها عند تنازع القوانين لمعرفة القانون الواجب تطبيقه" [12] .

يفهم من هذا النص أن المشرع الجزائري أخضع التكييف لقانون القاضي متبنيا بذلك رأي الأستاذ "بارتن " في التكييف .

حيث يلاحظ أن هذه المادة اقتصرت التكييف وفقا لقانون القاضي على التكييف الذي غرضه معرفة القانون الواجب تطبيقه ، فهي بذلك قد استبعدت التكييفات اللاحقة لأنه لا علاقة لها بالاختصاص التشريعي

وتدخل في إطار تطبيق القانون الأجنبي المختص، فبذلك يكون المشرع الجزائري قد أخذ بالتمييز الذي قال به "بارتن" بين التكييف السابق أو الأولي والتكييف اللاحق فالأول دون الثاني هو الذي يخضع حسب "بارتن" لقانون القاضي.

ويلاحظ أيضا أن هذه المادة لم تتعرض إلى الاستثناء الذي أورده " بارتن " بشأن الأموال بإخضاع تكييفها لقانون موقعها، مما يجعلنا نقول بأن الفقه الحديث لا يميل إلى الأخذ به حتى في الغرض الذي يترتب عنه اختلاف القانون الواجب التطبيق فيكون المشرع الجزائري قد ساير الفقه الحديث في ذلك .

ولا يوجد في صياغة المادة ما يمنع من التوسيع في مفهوم الفئات المسندة لتشمل الأنظمة القانونية الأجنبية غير المعروفة.

لكن يعاب على هذا النص عدم تركه للقانون الأجنبي مجالا لتحليل نظام قانوني أجنبي غريب عن القانون الجزائري للكشف عن ملامحه الأساسية للاهتداء إلى حقيقة طبيعته التي تسمح للقاضي بإدراجه في إحدى الفئات المسندة في قانونه، ومن شأن هذا العيب أن يؤدي في كثير من الأحيان إلى تشويه الأنظمة القانونية الأجنبية وإعطائها طبيعة مخالفة لتلك التي أرادها المشرع الذي نص عليها في قانونه، وهذا ما دفع بالفقه الحديث المؤيد لنظرية "بارتن " إلى القول بضرورة الاستعانة في التكييف بالقانون الأجنبي [13].

المطلب الثاني : الإحـالـة  " LE RENVOI ".

من المؤكد أن الإحالة تشكل إحدى القضايا الأكثر إثارة للجدل في القانون الدولي الخاص باعتبارها أدت إلى انقسام الفقهاء والاجتهادات والأنظمة التشريعية، وتنبع الإحالة من الصفة الوطنية لأنظمة القانون الدولي الخاص ،إذ أن خصوصية قواعد الإسناد تؤدي بصورة حتمية إلى حدوث حالات تنازع في الربط إيجابية أو سلبية .

فقانون كل دولة يتضمن إلى جانب القواعد الموضوعية التي تطبق مباشرة على النزاع قواعد إسناد مهمتها بيان القانون المختص بحكم العلاقات المشتملة على عنصر أجنبي، لكن بعد تحديد طبيعة المسألة موضوع النزاع وإعطائها الوصف القانوني وتحديد القانون الواجب التطبيق قد تظهر صعوبة في تحديد نطاق تطبيق هذا القانون.

وبالرجوع إلى التاريخ نلاحظ أن ظهور فكرة الإحالة كان لأول مرة في القضاء الإنجليزي عام 1841 غير أن معالمها لم تتحدد إلا في عام 1874 إثر قرار صدر من المحاكم الفرنسية بصدد قضية "فورقو Forgo  " التي تتلخص في أن فورقو ولد غير شرعي من الجنسية البافارية أقام في فرنسا منذ كان في عمره خمس سنوات حتى وفاته في سن الثامنة والستين تاركا ثروة منقولة طالب بها حواشي المتوفى وفقا لما يرتبه القانون البافاري   كما طالبت بها الحكومة الفرنسية أيضا باعتبارها مالكة للأموال التي لا وارث لها حسب القانون الفرنسي     ولدى الرجوع إلى قاعدة الإسناد في القانون الفرنسي ظهر أنها تخضع الميراث في المنقولات لقانون الموطن القانوني للمتوفى وهو في هذه الحالة القانون البافاري نظرا لأن "فورقو" رغم طول إقامته في فرنسا فإنه لم يكتسب فيها موطنا قانونيا وفقا للقانون الفرنسي الذي كان يتطلب حينذاك إذنا رسميا بالتوطن ، وحيث أن فورقو لم يحصل على مثل هذا الإذن فقد وجب على القاضي الرجوع إلى القانون البافاري لحكم النزاع القائم  ولما كانت قواعد الإسناد في القانون البافاري تخضع أيلولة التركة لقانون محل إقامة المتوفى المعتاد وهو هنا القانون الفرنسي الذي لا يعترف للحواشي بالإرث إلا إذا كانوا من إخوان وأخوات المتوفى ولما كانوا غير ذلك فقد رفضت المحكمة طلبهم وحكمت بأيلولة التركة للحكومة الفرنسية باعتبارها وارثة للأموال التي لا وارث لها ، و بهذا يكون القضاء الفرنسي قد أخذ بما أحال به القانون البافاري وأستبعد القانون الذي أمرت به قواعد إسناده وأعطى الاختصاص لقانون السكن الفعلي حسبما جاء في قواعد إسناد القانون الأجنبي .

وما تجدر الإشارة إليه هو أن الإحالة على نوعين ، إحالة من الدرجة الأولى وإحالة من الدرجة الثانية نكون بصدد إحالة من الدرجة الأولى لما تحيل قواعد الإسناد في القانون الأجنبي الاختصاص لقانون القاضي   وهو ما لاحظناه في المثال السابق "قضية فورقو " باعتبار أن محكمة النقض الفرنسية قالت بتطبيق قاعدة الإسناد في القانون البافاري الذي أشارت باختصاصه قاعدة الإسناد في القانون الفرنسي ، فتكون بذلك أخذت بفكرة الإحالة من الدرجة الأولى ، بينما الإحالة من الدرجة الثانية فهي تكون لما تحيل قواعد الإسناد في القانون  الأجنبي المختص وفقا لقواعد الإسناد في القانون الوطني الاختصاص لا إلى القانون الوطني وإنما إلى قانون أجنبي آخر .

ومثال ذلك نزاع عرض على القاضي الجزائري متعلق بالأحوال الشخصية لإنجليزي متوطن في الدانمرك فقواعد الإسناد الجزائرية تجعل الاختصاص للقانون الإنجليزي (قانون الجنسية) لكن قواعد الإسناد في هذا القانون ترفض اختصاصه وتعقد الاختصاص للقانون الدانمركي (قانون  الموطن) .

كل هذا أدى إلى انقسام الفقه إلى فريقين منهم من ناصر نظرية الإحالة ومنهم من عارضها ولكل من الفريقين أدلته وحججه .

الفرع الأول : حجج مناصري الإحالة.

إن قانون كل دولة يتكون من قواعد موضوعية وقواعد إسناد تكون في مجموعها وحدة متكاملة يلزم العمل بها بصورة كاملة ، وإذا أشارت قواعد الإسناد الوطنية بتطبيق قانون أجنبي فإنها تقصد بذلك جميع أحكام ذلك القانون ولا يصح تجزئة قواعده والاقتصار على الأخذ بقواعده الموضوعية فقط بل يلزم في الوقت ذاته إتباع قواعد الإسناد لذلك القانون ، ومن ثم فإن تحديد قواعد الإسناد الوطنية للقانون الأجنبي المختص بشأن علاقة قانونية معينة لا يعني بالضرورة نسب الاختصاص الفعلي للقانون الأجنبي بل أنها تعرض اختصاصا يمكن رفضه من قبل مشرع الدولة التي عرض الاختصاص على قانونها وذلك لأنه هو الذي يحدد سيادة        ونطاق تطبيق قانونه.

إن الأخذ بالإحالة احترام لقواعد الإسناد في قانون القاضي فهذه الأخيرة لما أشارت باختصاص القانون الأجنبي لم تفرق بين القواعد الموضوعية وقواعد الإسناد التي يتضمنها ، لذلك ينبغي الرجوع إلى القانون الأجنبي في جملته مما يتعين الإذعان لما تقضي به قواعد إسناده ، والأخذ بخلاف ذلك فيه إهدار لقواعد الإسناد الوطنية .

الإحالة وسيلة لتوحيد الحلول نتيجة الاتفاق على القانون الواجب التطبيق على العلاقة موضوع النزاع فمثلا قواعد الإسناد الجزائرية تقضي باختصاص القانون الإنجليزي إذا تعلق الأمر بأهلية إنجليزي متوطن بالجزائر باعتباره قانونه الوطني ، وقواعد الإسناد في القانون الإنجليزي تقضي باختصاص القانون الجزائري باعتباره قانون موطنه ، فإذا أخذ القاضي الجزائري بالإحالة فإنه سيطبق على أهلية الإنجليزي القانون الجزائري ولا يختلف الأمر لو أن هذه المسألة عرضت على القضاء الإنجليزي فإنه سيطبق غليها القانون الجزائري باعتباره قانون موطن الإنجليزي وهذا في حالة الأخذ بالإحالة من طرف القضاء الجزائري فسواء عرضت مسألة أهلية هذا الإنجليزي على القضاء الجزائري أم على القضاء الانجليزي  فإنها ستلقى نفس الحل وهو اختصاص القانون الجزائري بحكمها .

يؤدي الأخذ بنظرية الإحالة إلى تنسيق قواعد التنازع فيما بين مختلف قوانين الدول والاتفاق على القانون الواجب التطبيق مما يؤدي إلى تحقيق وحدة في الأحكام الناتجة عن اتفاق كلا القانونين (قانون القاضي و القانون الذي يشير إليه قانون القاضي) على إعطاء الاختصاص لقانون معين واختيارهما لقانون واحد يحكم النزاع يوصل إلى وحدة الأحكام التي من شأنها جعل تنفيذ الحكم الوطني في البلد الأجنبي سهلا يسيرا نظرا لاتفاقه مع ما يقضي به قانونه [14]، ومن أجل تنفيذ الحكم الوطني في الدولة الأجنبية التي تقوم في إقليمها الأموال العقارية التي تتكون منها تركة المتوفى ، مثلا اضطرت المحاكم الإيطالية في وقت من الأوقات إلى أن تأخذ بالإحالة بتطبيق قاعدة الإسناد لقانون الدولة الأجنبية التي وجد فيها المال غير المنقول والحكم بمقتضى ذلك القانون بدلا من العمل بقاعدة الإسناد الوطنية التي تعطي الاختصاص لقانون جنسية المتوفى .

وعلى العكس من ذلك فإن عدم قبول الإحالة الواردة في القانون الأجنبي يؤدي إلى تطبيق قوانين مختلفة تبعا لاختلاف الدول التي يعرض فيها النزاع وصدور أحكام غير موحدة مما يحول دون تنفيذ الحكم الوطني في بلد آخر .

لما يكون القانون الأجنبي المختص وفقا لقواعد الإسناد في قانون القاضي هو قانون بلد تتعدد فيه الشرائع تعددا إقليميا كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية أو تتعدد فيها تعددا شخصيا كما هو الحال في بعض دول الشرق الأوسط فإن القاضي سيجد صعوبة كبيرة في الكشف عن القواعد الموضوعية التي يتضمنها ، لكن لو أن هذا القانون الأجنبي المتعدد الشرائع يرفض الاختصاص المخول له ويحيله إلى قانون القاضي ويقبل القاضي بهذه الإحالة فإنه حينئذ لا يجد أية صعوبة لأن قانونه هو الذي سيصبح مختصا .

الفرع الثاني : حجج معارضي الإحالـة.

يرد معارضو الإحالة على الحجة القائلة بأن الأخذ بنظرية الإحالة يؤدي إلى توحيد الحلول نتيجة الاتفاق على القانون الواجب التطبيق على العلاقة موضوع النزاع بالقول بأن التوصل إلى هذه النتيجة ليس مضمونا في جميع الأحوال ، فهي لا تصح إلا إذا افترضنا أن القانون الأجنبي لن يأخذ بالإحالة ، ففي قضية "فورقو" السالفة الذكر لو عرض النزاع أمام المحاكم البافارية ابتداء لأهدتها قواعد الإسناد في القانون البافاري إلى العمل بالقانون الفرنسي ، فلو أخذ بالإحالة المقررة في هذا القانون لرجع الاختصاص إلى القانون البافاري بينما أدى العمل بالإحالة عندما عرض الأمر أمام المحاكم الفرنسية إلى إعطاء الاختصاص إلى القانون الفرنسي وبهذا اختلفت الحلول.

وردا على الحجة التي ساقها أنصار الإحالة والتي مفادها أنه ينبغي أخذ القانون الأجنبي في جملته مما يتعين الرجوع إلى قواعد الإسناد التي يتضمنها.

يقول معارضو الإحالة ينبغي اعتبار قانون القاضي هو كذلك كلا لا يتجزأ مما يتعين الرجوع كذلك إلى قواعد إسناده من جديد بعد الإحالة من القانون الأجنبي إليه و هكذا يبقى كلا القانونين يحيلان على بعضهما البعض مما يوقعنا في حلقة مفرغة لا نهاية لها وحتى يتجنب الوقوع في ذلك ينبغي عدم الأخذ بالإحالة إطلاقا وتطبيق القواعد الموضوعية الداخلية في القانون الأجنبي دون قواعد إسناده [15] .

كما تقدم معارضو هذا الاتجاه بحجج قانونية مفادها أن الأساس القانوني الذي يستند إليه مؤيدو نظرية الإحالة هو أساس خاطئ ، لأنه عندما تقرر قواعد الإسناد الوطنية تطبيق قانون أجنبي فإنما تعني بذلك القواعد الموضوعية أي المتعلقة بحكم العلاقة موضوع البحث وهي لا تعني قواعد التنازع لذلك القانون، ثم إن الدعوة إلى التمسك بوحدة أحكام القانون الأجنبي وعدم تجزئته  والمطالبة بالأخذ بقواعد الإسناد للقانون الأجنبي المنوه عنه فإن الأخذ بهذه الحجة يلزمنا في الوقت ذاته الأخذ بقواعد القانون الوطني بصورة كاملة ودون تجزئة بتطبيق القواعد الموضوعية وقواعد الإسناد فيه ، وهذا يوقعنا في حلقة مفرغة لا يمكن الخلاص منها ولا يتوصل القاضي إلى القانون الواجب التطبيق مما يفقد أصحاب العلاقة الاطمئنان إلى خضوع علاقتهم لقانون معين.

إن الأخذ بالإحالة قد ينجر عنه أحيانا الإجحاف بحقوق الأفراد وتطبيق نظم قانونية عليهم ليسوا خاضعين لها أصلا وغير مقررة في بلادهم [16] .

يستمد القاضي سلطته من قانونه الوطني لا من القانون الأجنبي الصادر من مشرع أخر ولذلك لا يلزم بالأخذ بالإحالة التي تقررها قواعد الإسناد للقانون الأجنبي ، وهو إن فعل بغير ذلك يكون قد خالف أوامر قانونه وخضع لأوامر القانون الأجنبي وعلى القاضي أن يعمل بمقتضى القانون الذي أشارت إليه قواعد إسناد قانونه دون إن يقلق على مصير الحكم من حيث قابليته للتنفيذ في الخارج .

وأما ما قاله أنصار الإحالة من أن في الأخذ بالإحالة ضمان لتنفيذ الحكم الأجنبي في الدولة المختص قانونها وفقا لقواعد الإسناد في قانون القاضي فقد رد على ذلك رافضو الإحالة بأن هذه الحجة تفترض أن الحكم الأجنبي يتم تنفيذه حتما في الدولة المختص قانونها بحكم النزاع وفقا لقواعد الإسناد في قانون القاضي في حين أن تنفيذ هذا الحكم قد تكون المطالبة به في غيرها ، فضلا عن أن هذه الحجة تفترض بأن الدول تشترط في تنفيذ كل حكم أجنبي أن يكون صادرا وفق ما تقضي به قواعد الإسناد في قانونها في حين أن قوانين الدول في غالبيتها لا تشترط هذا الشرط .

ومع كل ذلك هناك دول أخذت قوانينها بالإحالة كسويسرا وألمانيا والسويد والمجر ويوغسلافيا واليابان وبعض دول أمريكا الجنوبية ، وعملت بها محاكم كل من فرنسا وانجلترا ، وأكثر الدول التي أخذت بالإحالة إنما أخذت بها بدرجة واحدة وقيدت نطاقها في أحوال معينة وبشروط خاصة هذا بالإضافة إلى أن الأخذ بها لم يكن على قناعة بصلاحيتها بل لما للغيرة الوطنية من دخل كبير في قبولها وما يتسنى في ذلك من فرص أخرى يطبق فيها القانون الوطني بدلا من القانون الأجنبي .

الفرع الثالث : موقف القانون الجزائري من الإحالة.

لم يكن يوجد في القانون الجزائري أي نص يتعلق بالإحالة في مجال التنازع الدولي للقوانين غير أنه بعد تعديل القانون المدني بمقتضى القانون رقم 05–10 المؤرخ في 20/02/2005 بدأ موضوع الإحالة يظهر بشكل جلي في نص المواد : 23 ، 23 مكرر ، 23 مكرر 1 ، 23 مكرر 2 [17] .

فمن خلال استقراء الفقرة الأولى من المادة 23 مكرر 1 نجد أن المشرع الجزائري قد كرس نفس الموقف الرافض للإحالة الذي ذهب إليه كل من القانونين المصري والتونسي ، حيث لم يتطرق صراحة إلى هذا الحكم قبل تعديل القانون المدني ، لكن الإشكال يثور عند قراءة الفقرة الثانية التي تعقد الاختصاص للقانون الجزائري إذا أحالت عليه قواعد تنازع القوانين في القانون الأجنبي ، فالملاحظ أن هذه المادة في مجملها كرست الإحالة من الدرجة الأولى وهو نفس الحكم الذي أقره قانون دولة الإمارات العربية المتحدة لسنة 1985 في المادة 26 [18] .

         وفي هذا المنحى نلاحظ أيضا أن قانون رقم 05–10 قد تبنى موقفا متناقضا من فكرة الإحالة الدولية إذ أن الفقرة الأولى من المادة 23 مكرر 1 عبرت صراحة عن رفض الإحالة ، أما الفقرة الثانية من نفس المادة فقد أوردت تحفظا على الحكم السابق ، حيث أقرت اختصاص القانون الجزائري استثناءا إذا ما أحالت عليه قواعد التنازع في القانون الأجنبي المختص ، وهو ما يعتبر من قبيل الإحالة من الدرجة الأولى ، كما أقرت المادة 23 فقرة 2 بالنسبة لحالة التعدد الإقليمي وجوب تطبيق التشريع المطبق في عاصمة البلد .

نشير إلى أن الأستاذ "محند اسعد" يلاحظ بأنه لا يمكن قبول الإحالة في الأحوال الشخصية إلا إذا كان قانون الأحوال الشخصية غير مستمدة إحكامه من الشريعة الإسلامية وإلا فإننا نصل بقبولنا للإحالة إلى تطبيق إحكام الشريعة الإسلامية المتعلقة بالأسرة على الأمريكيين والبريطانيين ، فيمكن أن يكونوا وفقها متعددي الزوجات [19] .

أما الأستاذ" علي علي سليمان " فيرى عكس ما يراه الأستاذ" اسعد" إذ يرى ضرورة الأخذ بالإحالة في مجال الأحوال الشخصية بحجة أن الجزائر دولة مستوردة للسكان وليست مصدرة لأهلها ، في حين أن الملاحظ هو عكس ذلك فالجزائر دولة مصدرة لسكانها وليست مستوردة .

كما يرى الدكتور "أعراب بلقاسم" أنه إذا كان يمكن أن تتخذ الجزائر موقفا من الإحالة فإنه ينبغي أن تقبل بها إلا في مجال الأحوال الشخصية أين يجب استبعادها لأن إحكام الأحوال الشخصية في غالبية الدول مستمدة من ديانتها وأن الناس يريدون دوما الخضوع بشأنها إلى ما تمليه عليهم أحكام الديانة التي يعتنقونها وهو ما حسمته المادة 24 من القانون المدني بنصها " لا يجوز تطبيق القانون الأجنبي بموجب النصوص السابقة إذا كان مخالفا للنظام العام أو الآداب العامة في الجزائر أو ثبت له الاختصاص بواسطة الغش نحو القانون ".

فعلى القاضي وفقا لهذه المادة لما يجد القانون الأجنبي طبقا لقواعد الإسناد في قانونه مخالفا للنظام العام أو الآداب أن يقوم باستبعاده .

وقد أخذت بفكرة النظام العام كأداة لاستبعاد تطبيق القانون الأجنبي المختص معظم دول العالم ونصت عليها في تشريعاتها لأنها هي التي تقف كحاجز أمام القوانين الأجنبية التي تمس المبادئ الأساسية السائدة فيها فلا تتركها تعبر إلى مجتمعها ، وقد شبه بعض الفقهاء الدور الذي يلعبه النظام العام بالنسبة للقوانين الأجنبية المختصة " بصمام الأمان une soupape de sécurité  " [20] .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1] ـ عز الدين عبد الله : القانون الدولي الخاص الطبعة السادسة تنازع القوانين ص 114.

[2]  ـ علي علي سليمان : مذكرات في القانون الدولي الخاص الجزائري ، الطبعة الثانية 2003 ديوان المطبوعات الجامعية ص 41.

[3] ـ  Louis Lucas : qualification et répartition Rev crit 1957 page 153 .

[4] ـ Loussouarn et Borrel : droit international privé , 3ed Paris Dalloz 1988 page 279.

[5]  ـ محند اسعاد ، المرجع السابق ص 182.

[6]  ـ حسن الهداوي ، المرجع السابق ص 54.

[7]  ـ  أعراب بلقاسم ،المرجع السابق ص 80.

[8] ـ Loussouarn et bourel  op  page 295.

[9]  ـ عز الدين عبد الله، المرجع السابق ص 141.

[10]ـ  Loussouarn et bourel  op  page 287.

[11] ـ LOUSSOUARN ET BOUREL o.p  page 289.

ـ القانون المدني الجزائري، الديوان الوطني للأشغال التربوية الطبعة الرابعة. [12]

 ـ أعراب بلقاسم، المرجع السابق  ص 94.[13]

[14]  ـ حسن الهداوي، المرجع السابق ص 74.

[15]  ـ أعراب بلقاسم ، المرجع السابق ص 105.

[16]  ـ زروتي الطيب : القانون الدولي الخاص الجزائري مقارنا بالقوانين العربية ، الجزء الأول تنازع القوانين ، طبعة 2004 ، ص 110 .

[17]  ـ تنص المادة 23 على :"متى ظهر من الأحكام الواردة في المواد المتقدمة أن القانون الواجب التطبيق هو قانون دولة معينة تتعدد فيها التشريعات،فإن القانون الداخلي لتلك الدولة هو الذي يقرر أي تشريع منها يجب تطبيقه

إذا لم يوجد في القانون المختص نص في هذا الشأن طبق التشريع الغالب في البلد في حالة التعدد الطائفي أو التشريع المطبق في عاصمة ذلك البلد في حالة التعدد الإقليمي" ، وتنص المادة 23 مكرر "يطبق القانون الجزائري إذا تعذر إثبات القانون الأجنبي لواجب تطبيقه" ، كما تنص المادة        23 مكرر 1 على " إذا تقرر أن قانونا أجنبيا هو الواجب التطبيق فلا تطبق منه إلا أحكامه الداخلية دون تلك الخاصة بتنازع القوانين من حيث المكان غير أنه يطبق القانون الجزائري إذا أحالت عليه قواعد تنازع القوانين في القانون الأجنبي المختص" ،أما المادة 23 مكرر 2 فتنص على" تطبق المبادئ العامة للقانون الدولي الخاص فيما تم يرد بشأنه نص في المواد الخاصة بتنازع القوانين".

[18]  ـ زروتي الطيب ، المرجع السابق ، ص 115 .

[19]  ـ محند اسعد ، المرجع السابق ص 208.

[20]  ـ أعراب بلقاسم ، المرجع السابق ص 167  .



24/01/2011
0 Poster un commentaire

Inscrivez-vous au blog

Soyez prévenu par email des prochaines mises à jour

Rejoignez les 6 autres membres